في الحرية
فليست ثورات الشعوب الطالبة للحرية ناتجة عن مجرد غيابها، بل هي وعي بغيابها، وثمة فارق كبير بين مجرد غياب الشيء وبين استشعار غيابه. فما أكثر الشعوب وما أكثر الأفراد الذين تأكل معاصمهم وأرجلهم قيود الاستبداد وهم يحسبونها أساور من ذهب!
لا أعتقد أن هناك مفهوما سياسيا جذابا يعلو على مقدار جاذبية مفهوم الحرية، لكن لا أظن أيضا أن ثمة مفهوما أكثر غموضا واستغلاقا منه.
ولعله من قبيل تكرار البداهات أن نقول: ليست هناك حرية مطلقة لا بالنسبة للفرد ولا بالنسبة للمجتمع؛ لأنه لا وجود لكائن إنساني غير خاضع لحتميات بيولوجية ومجتمعية، كما أنه لا إمكانية لتصور قيام مجتمع يجسد مقولة الحرية بمدلولها الإطلاقي، أي بلا قيد و لا شرط ولا حتميات.
فالحرية بمعناها المطلق ليست سوى فوضى أو يوتوبيا حالمة، والحياة المجتمعية بما هي حياة أفراد وجماعات متعالقين بروابط، ومتخالفين في الأذواق والأفكار والمصالح لا بد لكي توجد وتستمر من أن تتأسس على قواعد وأعراف ونظم ومؤسسات ينضبط لها الفعل الفردي ويمتثل.
"
المذهب الليبرالي لا يمكنه أن يجسد من الحرية إلا دلالات معينة من بين دلالاتها الكثيرة التي بلغت من التعدد والتنوع حد الاختلاف والتناقض
"
في المعنى الليبرالي للحرية
ولفظ الحرية في استعماله السياسي اليوم يكاد يُختزل في المنظومة الفلسفية والسياسية الليبرالية، إذ ليس ثمة مذهب فلسفي أخذ من لفظ الحرية مادة لسنية لتسميته غير المذهب الليبرالي، لأن اللفظ الأجنبي ليبراليزم liberalisme يرجع من حيث الاشتقاق اللغوي إلى لفظ ليبرال libéral (الحر)، المشتق من لفظ ليبرتي liberté (الحرية).
لكن سيكون خطأ وقصورا في تأويل الفلسفات وفهم نظم الاجتماع أن نعتقد أن المذهب الليبرالي دون غيره من مذاهب واتجاهات الفكر، هو الوحيد الذي طلب الحرية وحاول تجسيدها في منظومته السياسية.
كما أنه خطأ وقصور في فهم ماهية مثال الحرية أن نعتقد أن النمط الحياتي الليبرالي هو تجسيد وموضعة لهذا المثال على صعيد العلاقات المجتمعية.
والسؤال الذي ينبغي الانطلاق منه لبحث علاقة الليبرالية بالحرية هو ما دلالة مبدأ الحرية في النسق النظري والمجتمعي الليبرالي؟
ومشروعية هذا السؤال، بل ضرورته آتية من كون مفهوم الحرية ليس لفظا منضبط الدلالة حتى يكون مجرد التسمية به واستعماله إمساكا بدلالته الكاملة، وتسييجا لها داخل الإطار المذهبي المسمى بها. فكما يقول مونتيسكيو في كتابه (روح القوانين): "ليس هناك لفظ تلقى من الدلالات المختلفة أكثر مما تلقاه لفظ الحرية".
ومن ثم يصح لنا أن نقول إن المذهب الليبرالي –على فرض كونه جدلا مذهب الحرية- لا يمكنه أن يجسد منها إلا دلالات معينة من بين دلالاتها الكثيرة التي بلغت من التعدد والتنوع حد الاختلاف والتناقض.
ومن ثم فالسؤال عن معنى الحرية وتحولات دلالاتها مطلب منهجي ضروري لمقاربة هذه الفلسفة السياسية، لنبصر نمط الحرية الذي تتبناه في رؤيتها الفلسفية، وتسعى إلى تجسيده في واقعها.
في التأريخ لمفهوم الحرية من منظور ليبرالي يحرص المفكرون الليبراليون الغربيون على التوكيد على تطور دلالي هام شهده المفهوم في تاريخ الثقافة والاجتماع الأوروبي، وهو أنه في القديم لم تكن الحرية ترتبط بالكائن/الفرد، بل ترتبط بالمدينة/الدولة.
بمعنى أن الحرية عندما كانت تستعمل كان مَاصَدَقُُهَا الدلالي في الواقع يرتبط بتحرير مدينة من سلطة غازية، وليس تحريرا للفرد، وإطلاقا لقدراته الفكرية والتعبيرية والسياسية..
لقد كان وعي الحرية في المجتمعات التقليدية وعيا بمفهوم جمعي يخص أرضا أو شعبا أو جماعة. أما الفرد فلم تكن له هويته ككينونة متفردة متميزة، بل كان ينظر إليه من جهة انتمائه إلى قبيلة أو عشيرة.. بمعنى أن هويته كانت موصولة ومتماهية مع هوية الجماعة، وكان أناه الفردي ذائبا في أنا الجماعة التي ينتمي إليها عضويا وإثنيا ودينيا..
"
الليبرالية لم تنشأ كتوكيد لحرية الإنسان، بل كتوكيد للحاجة إلى استغلاله بطرق مغايرة للاستغلال القناني، أي بطرق جديدة تناسب الثورة الصناعية
"
ميلاد مفهوم حرية الفرد
ولذا يحرص الفكر الليبرالي على إرجاع ميلاد الحرية بمدلولها الفردي إلى القرن الثامن عشر، أي إلى نظرية العقد الاجتماعي التي ستنتهي بفعل التحولات السوسيولوجية والسياسية التي شهدها عصر الأنوار، إلى اندلاع الثورات (الإنجليزية والفرنسية..)، التي كانت إيذانا بالانتقال من النمط المجتمعي التقليدي الإقطاعي إلى نمط مجتمعي بورجوازي ليبرالي.
لكن الحكاية ليست بهذه الرومانسية التي يريد الخطاب الليبرالي أن يشيعها، إذ لو نظرنا إلى صيرورة السياق التاريخي لميلاد فكرة حرية الفرد داخل المنظومة الثقافية والحضارية الغربية سنلقى الكثير من المعطيات التي تخدش هذه الصورة الرومانسية التي يتم تسويقها.
فما هي أهم لحظات هذه الصيرورة التاريخية؟
في عصر النهضة الأوروبية وداخل المجال الجغرافي الإيطالي أخذ الوعي الأوروبي يشهد حراكا ثقافيا مزامنا لحراك واقع كان يؤسس لمدن تجارية مفتوحة على العالم، ومكثفة لعلاقات التواصل معه.
فمن حيث حراك الوعي حدث انفتاح على عوالم ثقافية جديدة: عربية وإغريقية ورومانية، فكانت أول نزعة هيمنت على هذا الوعي المتحرك المنفتح هي النزعة الإنسية التي يمكن مع بعض التجوز اعتبارها تقديرا للكائن الإنساني رغم نزوعها التقليدي الذي سكنها في البداية.
وهذا الانفتاح الثقافي على الحضارة الإسلامية والموروث الهليني كان لا بد أن تعارضه الكنيسة، ومن ثم كان لابد أن يستشعر مفكرو النزعة الإنسية الحاجة إلى الحرية، ويتوقون إلى مثالها.
ولقد مهد هذا الشرط التاريخي لميلاد الشعور بالحاجة إلى مثال الحرية، وهو الشعور الذي كان قابلا للاستواء في أي شكل مذهبي يحلم بتجسيده.
في هذه اللحظة التاريخية كانت إيطاليا بحكم موقعها الجغرافي المشرف على البحر الأبيض مكانا مناسبا لنمو المدن التجارية، وهو النمو الذي سيؤدي إلى بروز فئة اجتماعية جديدة هي فئة التجار.
لكن بفعل الكشوفات الجغرافية سيتم تحويل طريق التجارة الدولي من حوض البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلسي –مرورا برأس الرجاء الصالح، ثم إيغالا في عباب المحيط بعد اكتشاف أميركا- الأمر الذي نتج عنه انخفاض القوة الاقتصادية الإيطالية، وانتقال مركز الثقل الاقتصادي إلى باقي أقطار أوروبا كإسبانيا والبرتغال وهولندا وإنجلترا...
ومع تطور المعرفة العلمية ستحدث نقلة نوعية في كيفية التفاعل مع الطبيعة أسست للثورة الصناعية، وهكذا ستتحول القوة التجارية المتمركزة في المدن إلى قوة صناعية.
لكن التصنيع محتاج إلى أمرين أساسيين، فضلا عن الرأسمال الذي كان متوفرا بفعل الحركة التجارية، هما: المعدن والقوة البشرية.
أما من حيث المعادن فقد تكفلت الكشوفات الجغرافية بفتح الطريق أمام أكبر حركة نهب شهدها تاريخ الإنسانية! لكن من حيث القوة البشرية فقد كان ثمة مانع ثقافي ومجتمعي يعوق توفرها، وهو النظام الإقطاعي الذي كانت فيه القوة البشرية العاملة في الحقل، قوة أقنان مشدودة إلى الأرض تعيش بين سياجاتها، وتعمل فيها، وتدفن بداخلها.
بمعنى أن النظام الإقطاعي الأوروبي كان عائقا يعترض حركة القوة البشرية وانتقالها من الحقل/القرية إلى المصنع/المدينة؛ فكان لا بد من تفكيكه بنقض نظام القنانة وتحرير القن ليتمكن من الانتقال إلى المدينة.
وهنا كان لابد للفكر من توظيف "الفكرة المثالية"، ليتم اجتذاب الوعي والفعل ليكسر نظام لحظته فينتقل إلى نظام بديل، فكان المثال هو الحرية التي سيتم تقديمها بمدلول خاص يتناسب مع الظرف التاريخي والحاجة المجتمعية الوليدة، فولدت مقولة الحرية بمدلولها الليبرالي كتحرير للقن ليتحول إلى عامل.
وبذلك فالليبرالية لم تنشأ كتوكيد لحرية الإنسان، بل كتوكيد للحاجة إلى استغلاله بطرق مغايرة للاستغلال القناني، أي بطرق جديدة تناسب الثورة الصناعية.
ودليل ذلك أن إبادة الهنود الحمر جاءت مقترنة مع بداية انهيار النظام الإقطاعي، واستعباد شعوب أفريقيا واستعمارها ونهب مقدراتها لم يكن صنعة الإقطاع، بل كان صادرا عن النظام الليبرالي الرأسمالي، وكان التسويغ التشريعي لهذا الاستعباد صادرا من داخل البرلمانات الليبرالية الرافعة لشعار الإخاء والحرية والمساواة!
ولذا نقول إن القراءة السوسيولوجية لنشأة الليبرالية لا تمكننا فقط من فهم شرط النشأة، بل أيضا من انتزاع وهم التقريظ الذي يخلع عليها بوصفها حركة تحرير مطلقة، باعثها هو تقدير حرية الشخص ذاته، بينما هي في الأصل حركة قامت بتوظيف المثال واستغلاله على نحو يناسب شرطها التاريخي.
"
يجب أن تبقى الحرية دائما مثالا جاذبا لوعينا، من أجل مزيد من تجسيدها في الواقعين الثقافي والسياسي، ولا ينبغي أن تُختزل في أي مذهب جاهز مهما كانت مزاعمه أو حتى قيمته
"
لقد ارتبط المدلول الفردي للحرية بالتأسيس لنظرية الحقوق المتعلقة بذاتية الفرد الإنساني بوصفه كائنا عاقلا ومساويا لغيره بالطبيعة.
لكن التنظير للحقوق الطبيعية وتصنيفها وتعدادها لم يمنع من بقاء مفهوم الحرية في غموضه وصعوبة قبضه معجميا من خلال قالب دلالي منضبط ومبرأ من الانزياح.
فحتى الفلسفة الأنوارية التي انشغلت بالمسألة السياسية، وقاربتها إشكاليا ومفاهيميا من منظور قانوني عبر مساطر وقواعد ونظم، قد استشعرت غموض مفهوم الحرية واستغلاقه، وصعوبة إنجاز حد ماهوي أو حتى حد استقرائي لملامحه.
ولذا فالمفارقة التي نلاحظها هي أن فلاسفة الليبرالية المعاصرين ومفكري الأنوار قبلهم، المنشغلين بتجسيد الحرية عبر تقنينها، لم يجدوا مسلكا لتعريفها إلا انتهاج المقاربة النفسية!
فموريس فلامان مثلا عند استخلاصه للحقوق الطبيعية والمدنية استدرك أنها رغم تعددها وكثرتها لا تستنفذ دلالة المفهوم ولا تستوعب سعته.
أما ما هي هذه الدلالة التي يشير إليها فلامان، فهي ما نلمسه في قوله: "إننا نحس أننا أحرار، أو أننا لسنا أحرارا.."، ويضيف: "إن الحرية رائحة تشم"، إنه نوع من التعلق بمقاييس الاستشعار النفسي للحرية، بعد الوعي بصعوبة تقديم مدلول قابل للضبط.
ولتوكوفيل الذي يعده الليبراليون مونتيسكيو الثاني تعبير مجازي يفيد ذات المعنى حيث شبه الحرية بالهواء، عندما قال: "يظهر لي أن الحرية تشغل في عالم السياسة الموقع الذي يشغله الهواء في العالم الطبيعي"، بمعنى أن الحرية هي هواء نتنفسه، وغيابها يُحس به مثلما نحس بالاختناق عند نقص الهواء.
صحيح أن المقاربة النفسية التي لجأ إليها فلامان ومن قبله توكوفيل ليست مبنية من الناحية المعرفية على أساس مكين، إذ جلي أن غياب الحرية ليس كغياب الهواء، وليس الشعور بنقصها عند الأفراد والشعوب على هذا النحو التلقائي الذي يتحدثان عنه.
فليست ثورات الشعوب الطالبة للحرية ناتجة عن مجرد غيابها، بل هي وعي بغيابها، وثمة فارق كبير بين مجرد غياب الشيء وبين استشعار غيابه. فما أكثر الشعوب وما أكثر الأفراد الذين تأكل معاصمهم وأرجلهم قيود الاستبداد وهم يحسبونها أساور من ذهب!
لكن مسلك توكوفيل وفلامان يفيد ما أكدناه سابقا وهو صعوبة التحديد الدلالي الجامع المانع لمعنى مفهوم الحرية، ولذا فما ألجأهما إلى هذه المقاربة النفسية والإيغال في التشبيه المجازي إلا غموض الدلالة وزئبقية المعنى.
وتأسيسا على ما سبق نقول إن الفكرة الليبرالية ونمطها المجتمعي لم يظهرا بناء على إيمان بحرية الكائن الإنساني، ولم تناد سواء كاتجاه فلسفي أو نظرية سياسية بمبدأ الحرية لسواد عيون الحرية، وإنما بقصد تخليص القن من سياج الأرض، ليتحول إلى مادة قابلة للاستعمال في المصانع.
وعندما نؤكد هذا فلسنا نقصد بذلك أن نقول إن وضع الإنسان في نظام القنانة كان أفضل من وضعه الذي صار إليه في نظام التصنيع، بل نقصد التنبيه إلى أن كلا الوضعين بحاجة إلى إعمال الوعي النقدي بقصد تجاوزهما نحو طلب المثال.
وعندما ندرس سياق النشأة، فالهدف من ذلك بيان الباعث إلى الفكرة، ومحدودية جرأتها، ليبقى مثال الحرية في المرتبة الميتافيزيقية لما بعد، أي مطلقا ننزع نحوه معا لوعي بأن كل زعم بامتلاكه هو مجرد مسخ له!
فالحرية سواء بمدلولها الفردي أو الجماعي يجب أن تبقى دائما مثالا جاذبا لوعينا، من أجل مزيد من تجسيدها في الواقعين الثقافي والسياسي، ولا ينبغي أن تُختزل في أي مذهب جاهز مهما كانت مزاعمه أو حتى قيمته.