Friday, March 03, 2006

ثورة الطبقة المراهقة


الاربعاء 9 نوفمبر 2005م، 07 شوال 1426 هـ


ثورة الطبقة المراهقة







غسان الإمام

لا وطن لهذه الثورة. لا أرض فهي تشتعل في اللامكان، في الـNO Mans Land، هنا في أحزمة البؤس والغضب التي تسور مدن المشرق العربي والإسلامي. قد تشتعل هناك في «

القصبة» في قلب مدن المغرب العربي، أو تهب في مدن افريقيا المطلة من الغابة الكثيفة، أو في «غيتو» الأقليات العرقية والدينية المهاجرة إلى مدن أوروبا، أو في خط المواجهة مع الاستعمار القديم

«سبتة ومليلة» أو مع الاستعمار الحديث «غزة والضفة» أو في «غيتو» الغربة حيث مخيمات اللاجئين في لبنان وسورية والأردن والسودان وباكستان.. بل قد تطل من عباب البحر الذي

يقذف إلى بر اوروبا بجثث فتية مبللة، أو بجثث شبه حية جاءت على متن قوارب متهالكة.

كانت الثورات التاريخية من صنع الأرقاء المحرومين في الامبراطورية الرومانية، وفي الدولة الإسلامية (ثورة الزط). الثورات الحديثة، بورجوازية وماركسية، كانت من صنع ثوار المدن، أو من

صنع شباب تأثروا بأفكار فلاسفة الاحتجاج الاجتماعي كروسو ومونتسكيو وماركس ولينين وماو، بل صنعها أيضا رجال الدين أو عسكر محترفون أو آيديولوجيون.

ثورة الستينات، آخر الثورات الراديكالية الحديثة، كانت من صنع طلبة الجامعات في المدن الذين ألهبت خيالهم أفكار تروتسكي ضد النظام الستاليني المتحجر، وأفكار ماركوز ضد نظام الدولة المتعالية

الديغولي، وضد النظام الأميركي الذي ساق شبابه إلى حروب عبثية في كوريا وفيتنام وكامبوديا.

من هم، إذن، هؤلاء الثوار الجدد؟

إنهم جيل آخر. طبقة اجتماعية مراهقة! فتية بين الرابعة عشرة والثانية والعشرين! فتية يختفون في النهار ويظهرون في الليل. فتية أشبه بالوطاويط في أفلام الخيال الفضائي والإلكتروني.

وجوه مجهولة سمراء وسوداء تتكلم لغتها الخاصة بها، وتتبادل إشاراتها وايماءاتها التي لا يفهمها أحد غيرها.

ثورة تختلف عن الثورات، ما أسميه «ثورة الطبقة المراهقة»، لا يمكن نسبها الى انتماء. انها بلا هوية، بلا أسماء، بلا أفكار وفلسفات وآيديولوجيات، بل حتى بلا ثقافة. «الثورة المراهقة»

منبثقة من حالة «شيزوفرانيا» حادة، حالة انقسام وانفصال عن المجتمع والعائلة والمدرسة والنظام السياسي والاقتصادي.

الثورة المراهقة لا يقودها أو يحركها تنظيم سياسي. ثورة بلا قادة وزعماء. ثورة ذكورية بلا نساء وفتيات. مجموعات من المراهقين تتحرك بخفة في انتفاضات لاهبة تشتعل وتمتد بسرعة،

لتنطفئ بسرعة. تبقى النار تحت الرماد، لتعود فتندلع في فرصة مناسبة: اعصار مدمر في نيوأورليانز. خيبة وهزيمة في مباراة كرة. مصرع مراهقين اثنين في ضاحية أولشيه سوبوا

الباريسية، أو تحت وطأة احتلال همجي في الضفة وغزة والجولان. أو بعد صدام مع الشرطة في «غيتوهات» الأقليات العرقية في مدن بريطانيا.

حتى السلاح في الثورة المراهقة يختلف عن سلاح الثورات. انها ثورة بلا طلقات رصاص. ثورة سلاحها الحجر في فلسطين، وحرائق النار في أوروبا، والمدية المنشارية (ماشيت) في

افريقيا. الهدف دائماً رموز الرأسمالية والعولمة والتمايز العرقي والديني: حرق السيارة رمز حرية الطبقة الوسطى والبورجوازية في أوروبا. نهب المجمع الغذائي والتمويني (سوبر ماركت)

رمز الحرية الاستهلاكية المحمومة والقوة الشرائية في مدن أميركا المنكوبة بحرائق وأعاصير واضطرابات، تدمير مطاعم الـ «فاست فود» رمز العولمة التي تقودها الشركات متعددة الجنسية.

الثورة المراهقة، إذن، تجاوزت التنظيم الحزبي والسياسي. لقد حاول السيطرة عليها واحتواءها واستعارتها. انتفاضة الأحجار استعادتها «فتح» من مراهقي الشارع وصبية المخيمات، ثم

سلحتها «حماس»، ففقدت القدرة على الفعل السياسي. في انتفاضة ضواحي باريس والمدن الفرنسية، تسعى المرجعيات الدينية والأصولية، بلا نجاح كبير، لتهدئة الثورة المراهقة، أو استعادة

المبادرة منها، أو لمساومة السلطة والشرطة عليها.

النظام السياسي ساهم، عموما، بلا مبالاته ولا جديته، في تهيئة الظروف المناسبة لثورة الطبقة المراهقة. مع ليبرالية العولمة تحولت السياسة الاقتصادية للدولة الى تهيئة الشروط المناسبة لازدهار

اقتصاد «البزنس». تفتح الصحف العربية والأجنبية، فترى صفحاتها الاقتصادية طافحة بأخبار «البزنس». لا شيء عن اقتصاد المجتمع، ومعاش الناس والسكان.

في ظروف عولمة النظام والاقتصاد، نشأ جيل جديد محروم من كل لذائذ الرأسمالية التي يوفرها النظام للطبقات البورجوازية والوسطى التي يمثلها. لكن لا سكن لأسر الطبقة المراهقة. لا عمل

للشباب. لا مدرسة كفوءة للمراهقين. رفض اجتماعي مطلق لتشغيل السمر والسود. في اوروبا الثورة المراهقة من صنع الجيل الثالث العربي والافريقي، جيل ولد في أوروبا، ولا يعرف بلدانه

الأصلية، بل لا يتكلم لغتها. جيل مراهق معزول عن المجتمع، ومتمرد على العائلة.

حيرة الدولة الأوروبية أمام ثورة الطبقة المراهقة تتجلى في الخلاف داخل النظام والطبقة السياسية ومؤسساتها الحزبية، حول التعامل مع هذا الجيل. الدولة لم تف بوعودها المتكررة بتأمين حاجات

المهاجرين الأساسية، من سكن وعمل ودمج في المجتمع وهي أصلا تنوء بعبء بطالة متفشية بين أجيالها المراهقة والشابة.

كان في ظن نيكولا ساركوزي السياسي الفرنسي البارز ان انشاء مرجعية دينية اسلامية للمهاجرين كاف لاستيعابهم ودمجهم. غير ان هذه المرجعية ما لبثت أن استولت عليها التنظيمات الأصولية

الاخوانية وغير الاخوانية. كان الأفضل تشجيع الأجيال الشابة المهاجرة على الاندماج في المؤسسات الحزبية الفرنسية المشروعة، بدلا من دفعهم إلى «الغيتو» الأصولي. لكن هذه المؤسسات

الحزبية لم تعد جدية مع انكفاء العمل الحزبي الشعبي، وتقارب آيديولوجيات اليمين واليسار، كما هي اليوم في المانيا وبريطانيا.

وهكذا، عندما تندلع انتفاضات الثورة المراهقة، يدفع النظام السياسي بأجهزته الأمنية الى خط المواجهة في الضواحي وأحزمة المدن وأزقة الشوارع. نعم، للقانون في أوروبا قداسة. التدمير

والتخريب وإحراق الممتلكات العامة والخاصة مرفوض، ويعاقب عليها القانون بشدة، لكن عصا الأمن غير كافية لحل اشكالية الثورة المراهقة.

قسوة الأجهزة الأمنية تزيد من غضب المتمردين المراهقين. هنا تقع الأجهزة بين نارين: إذا قمعت ثار أهل المراهقين ومؤسسات «الغيتو» الدينية وأحزاب المعارضة. إذا استرخت

الأجهزة، تمادت الثورة المراهقة، بلا وعيها ولا شعورها بالمسؤولية، في التخريب والتدمير غير المقبولين في المجتمعات المضيفة والمستقبلة.

عندما أطلق ماركس صيحته الشهيرة: «يا عمال العالم اتحدوا» لم يستجب له أحد. استطاعت الامبراطوريات القديمة والدولة القومية حشو خنادق حروب القرنين الأخيرين بالعمال البائسين.

انحاز العمال، في لا وعيهم، الى انتمائهم القومي، لا الى انتمائهم الطبقي. الثورة المراهقة تمكنت في أوروبا، من توحيد العرب السمر والأفارقة السود في النضال من أجل سكن أفضل، وعمل أشرف،

ومساواة اجتماعية، من دون أن ينطلق نداء يدوي: «يا مراهقي العالم اتحدوا»!

في غمرة تناقضات الثورة المراهقة، يحلو لي أن أسأل نفسي: هل العرب عنصريون؟! أجيب بصراحة: نعم، لقد وحدت مراهقيهم السمر والسود الثورة المراهقة. لكن ماذا لو رأى عربي في

عاصمة عربية أسود يرافق فتاة عربية: لا شك انه سيمزقه إربا إربا. في أوروبا، يرى الأوروبي ابنته معلقة بذراع فارسها المراهق الأسمر العربي أو الأسود الأفريقي. فلا يثور ولا يحتج.

يكظم غيظه وغيرته. لكن اذا جاءه هذا العربي أو الافريقي الى مكتبه وشركته ليطلب عملا، رفضه بكل غطرسة عنصريته.


* نقلا عن صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية

0 Comments:

Post a Comment

<< Home